تونس، ضحايا القهر الحقيقيين لا يبكون

Imprimer
Publié le Jeudi 11 Décembre 2014 à 11:06
للتونسيين مع الدموع التلفزية تاريخ طويل، فمنذ زمن الأسود والأبيض لم تكن خطب الزعيم الحبيب بورقيبة تخلو من لحظات عاطفية تتغير فيها نبرته وتترقرق دمعته فيتوقف ليرفع النظارات ويمسح عينيه ويعدل صوته ثم يعود إلى السياق كأن شيئا لم يكن. كان يُحدث الناس عن طفولته وأمه ونساء عائلته فيبكي ثم يعلن أن تحرير المرأة هي قضيته الشخصية الأولى، ويحدث الناس عن الزنازين التي اقتيد إليها والمنافي التي أبعد فيها فيبكي ثم يؤكد أنه قد انتصر على الذين كانوا يعتقدون أن إخراج فرنسا أمر مستحيل، وكان يغالب دموعه كلما تذكر أن تونس ستستمر من بعده، وسرعان ما يطمئن جمهوره على مستقبلها لأن أساسها متين لا تقتلعه العواصف العاتية.

كنا نحب الزعيم ونحب خطبه ودموعه التي هي أبلغ من كل صيغ التوكيد في اللغة، وعندما كبرنا وحدثونا عنه اتضح أن كل تلك الدموع التي ذرفها في خطبه كانت جزءا من سيناريو متقن للتواصل الجماهيري في زمن كان فيه بعض الزعماء يستحوذون على مشاعر الملايين بدمعة وابتسامة. ورغم ذلك لم يشكّ أحد في صدقها لأنها كانت رسائل عاطفية مشفرة ترسخ في الأذهان العلاقة الأبوية التي تربط الزعيم القائد بالشعب وتجعله المرادف الرمزي للدولة.

وفي نهاية الثمانينات، عندما غنى محمد عبد الوهاب رائعته “من غير ليه” بكى صالح جغام في برنامج تلفزي غضبا على أشخاص لم تعجبهم الأغنية وقال كلمته الشهيرة: “لا تكتبوا عن الأشياء التي لا تعرفونها ولا تشعرون بقيمته لأنكم لم تعيشوها”. كان صالح جغام صوتا من أصوات الإذاعة في عزها ورمزا من رموز الثقافة العصامية، وقبل سنة واحدة من وفاته المفاجئة كان في قلب تحولات المشهد الثقافي والإعلامي كمن يقود عاصفة بمفرده، تلك العاصفة التي بشّر بها الشابي من قبل لاقتلاع الجذور اليابسة، وكان عندئذ صادقا في دموعه لأنه كان يخوض معركة حقيقية ضدّ الرداءة.

من شهد سهرة الوداع الفلسطيني ذات ليلة صيف من إحدى سنوات التسعينات لا يمكن الا أن تعلق بذاكرته كما تعلق الذكريات الجميلة دمعة محمود درويش، كانت دمعة صغيرة لكنها نهر من الأحاسيس نَبَع من جهة في القلب لا يدركها الا الشاعر، في تلك اللحظة لم تستطع اللغة أن تقول بمفردها مشاعر شعبين عاشا معا اثنتي عشرة سنة كاملة بحلوها ومرّها، “هل نسينا شيئاً وراءنا؟ نعم… نسينا تلفُّت القلب، وتركنا فيك خير ما فينا، تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرا”، هي دمعة ترجمت إلى كل لغات العالم عرفان فلسطين بالسخاء العاطفي التونسي، واختصرت عمرا مشتركا امتزجت فيه الدماء بالدماء عندما لاحقت طائرات العدوّ تحت أنظار العالم منظمة التحرير الفلسطينية حتى شواطئ الساحل الافريقي الشمالية، في ليلة الوداع تلك تلألأت في بريق الدمعة صور السفينة وهي تدخل صباحا ميناء بنزرت حاملة المقاتلين الفلسطينيين وأيتام الشهداء القادمين من جهنم بيروت، ضاقت بهم الأرضُ على رحابتها ففتحت لهم تونس أحضانها، تلفعت زوجة الرئيس بكوفية فلسطينية وحملت في ذراعيها طفلا وتقدمت المقاتلين وهم ينزلون من السفينة على وجوههم غبار المعركة الأخيرة والحصار وعلى أكتافهم رشاشات لم يطلب منهم أحد خلعها قبل الهبوط إلى أرض قرطاج. وظلت تونس تفتخر طويلا بأنها البلد العربي الوحيد الذي لم يخرج منه الفلسطينيون مطرودين، بل عادوا منها إلى ما يشبه البلد وما يمكن اعتباره بداية الاعتراف بالدولة.

وكم كان مؤثرا مشهد أرملة شهيد إسلامي وهي تقول لأحد قادة حركة النهضة باكية: لا تنتقموا، حدث ذلك في أعقاب الانتخابات الأولى بعد الثورة وكانت شماريخ الفرح تملأ سماء مونبليزير، كانت تلك المرأة التي تعرف الجمر أكثر من غيرها تبكي من شدّة الفرح، وكانت دعوتها أبناء الحركة للصمود في وجه ثعبان السلطة وإغراءاته ذروة الشموخ الذي يكلل كل القصص الأليمة، لكنّ صورتها ضاعت شيئا فشيئا في ضباب الكراهية السوداء وتلاشت في دخان الحقد الأعمى.   للدمعة هيبتها وللابتسامة رونقها عندما تنبعان من القلب وتفيضان صدقا وبهاء، لكننا صرنا إلى زمن تهاوت فيه القيم وتبعثرت تحت أقدام المهرولين والمتسلقين، ومثلما لا يشك أحد في صدق هذه الدموع التي ذكرت لا يختلف عاقلان في أن الدموع التي تقطر نفاقا ورياء لا تثير في النفس أي أسف أو أسى بل تستفز مشاعر السخط وتتحول بمرور الأيام إلى ما يشبه النكتة أو الموقف السخيف الذي يتندّر به الناس، يدخل ضمن هذا الباب بكاء ذلك الوجه الرياضي المعروف وهو يشكر “سيادة الرئيس” ويدعو لوالديه بالرحمة لما أنعم به على القـناة وباعثها، ولا يختلف عنه في شيء مدير الحملة الانتخابية للرئيس المنتهية ولايته عندما بكى بين يدي سمير الوافي نيابة عن مساجين العهد السابق من غير أن ينتبه إلى أن ضحايا القهر الحقيقيين لا يبكون، وليسوا في حاجة إلى من يبكي نيابة عنهم، فتلك خصلة أخرى من الخصال التي تجعل الناس أمامهم يتضاءلون، وكل بُكاء مأجور باسم معاناتهم هو ضرب من التحيّــل الموصوف.


عامر بوعزة


Soyez des journalistes citoyens
Cette rubrique est aussi la vôtre. Si vous souhaitez exprimer vos coups de cœur, coups de gueule ou revenir sur n’importe quel sujet qui vous tient à cœur, un événement qui vous interpelle, vous pouvez le faire en nous faisant parvenir vos écrits en cliquant  ici.
GlobalNet se fera un plaisir de les publier, avec ou sans la signature de leurs auteurs. Vous avez tout à fait le droit de garder l’anonymat ou de signer avec un pseudo.


 

Commentaires 

 
-2 #2 RE: تونس، ضحايا القهر الحقيقيين لا يبكون
Ecrit par Royaliste     15-12-2014 11:43
le salarié tunisien est la vrai victime dans ce pays.
Il paye plus que le 1/3 de son salaire a l'Etat, alors que des milliers de citoyens sont ''exonérés'' d'impôts, je parle des fonctions libérales, des commerçants, des menuisiers, des restaurateurs, des sandwicheries, des grossistes, des trafiquants de Moncef Bey a Souk Jemmal.... le salarié porte a lui seul le fardeau fiscale de ce pays ...
 
 
+11 #1 ليتتنا نعدل
Ecrit par sportif     11-12-2014 19:46
ليتنا نكون اعدل في اشارتنا الى البكائين الجدد فالعدل اساس العمران والاشارة الى بكاء المتنافس الثاني خلال الجولة الثانية وهو السيد باجي اكثر من اكيدة وواجبة ليتنا نعدل حتى في الا شاراة البسيطة وليست بريئة...
 
Ces commentaires n'engagent que leurs auteurs, la rédaction n'en est, en aucun cas, responsable du contenu.